الدعوة مشروع حياة
على الرغم من التَّصوُّر الإيماني البسيط للحياة، فإن المطابقة بين الفهم والتطبيق تحتاج إلى إعادة ترتيب وتعميق من المرأة الداعية إلى الله تعالى لهذا الفهم في أثناء الأداء، إذ إن البعض غالبًا ما يفصل- دون قصد- بين أدائه للشعائر التَّعبديَّة وأعماله الأخرى، فقد تعتبر الداعية الشعائر التَّعبديَّة شيئًا وأعمالها اليومية شيئًا آخر، فتلجأ إلى ممارسة العبادة في الشعائر، ثم تؤدي سائر أعمالها كعادة يومية، أو حاجة شخصية، تقتضيها الظروف الحياتية!!
وقد ينسحب هذا التطبيق على جانب الدعوة أيضًا، فمن تفهم هذا الفهم القاصر تعتبر نفسها موظفةً في الدعوة تؤدي وظيفتها تلك في مواعيد رسمية، ثم تـمارس بعد ذلك ما تشاء من شئون شخصية، منفصلة عن مقاصد الدعوة، فليس لها شأنٌ بالدعوة، ولا شأنَ للدعوة بـها في بقية وقتها وعملها الذي تمارسه بعيدًا عنها في بيتها ووظيفتها، وغير ذلك من المجالات التي تعتبرها شخصيةً، فهي بهذا الفهم موظفةٌ في الدعوة وليست صاحبةَ دعوة.
إن الدعوة- في حقيقتها- مشروع حياة بمنهج الله، تستوعب كل الوقت وكل العمل، والداعية الحق صاحبة مشروع الدعوة وليست موظفةً فيها، يقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين﴾ (الأنعام: 163،162) وفي هذا أمر بأن تكون الحياة- كل الحياة- لله رب العالمين.
ويقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّة﴾ (التوبة:111)، فلم يسْتَبْق لنا عقدُ الإيمان مع الله تعالى في هذا البيع شيئًا من أنفسنا أو ممَّا ملكنا، ويقول عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- رضي الله تعالى عنه-: دَعَانَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وآله وسلم- فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ: فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ" (رواه البخاري)، وبذلك تستوعب الطاعة أقطار النفس واتِّساع الحياة.
ويقول الله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ (الزلزلة: 8،7) ويقول عَزَّ من قائل: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق:18)، ويقول الله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا* اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ (الإسراء:14،13)، ويقول تعالى:﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ (الكهف:49)، فحساب الله تعالى لنا سيشمل كل شيء حتى مثاقيل الذَّر، في عُمُر كلٍّ منَّا.
إن هتاف الدعوة: الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا؛ فالغاية واضحة، وليس فيها انفصال، والله لا يقبل معه شريكًا، وبيعة الإيمان لم تجعل للمؤمن حَظًّا دنيويًّا ولا غايةً شخصية، وهكذا كان الداعي الأوَّل- صلى الله عليه وآله وسلم- ولا قدوةَ لنا دونه، كما بيَّن الدستور الأوحد وهو القرآن، ولا تصدُق تلك البيعة إلا بالجهاد في سبيل الله تعالى.. قال سبحانه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف: 108).
مطالب الدعوة للمسلمة الداعية
1- أن تصبغ حياتها كلها بصبغة الله تعالى، قَوْلاً، وعملاً، وحالاً، قال سبحانه: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ (البقرة: 138).
2- أن تدرك الداعيةُ أنها قدوةٌ لغيرها، اختارها الله على عِلمٍ لحمل الرسالة، والواجب عليها أن تؤديَها بأمانة.
الطريق العملي لتحقيق تلك المطالب
1- أن تدون- كتابةً- في كراسة كلَّ أفعالها اليومية، في المنزل، مع الأهل أو منفردة، مع الجيران، مع الزميلات، ومع سائر من تتعامل معهم.
2- تقوم بمطابقة كل فعل منها بثلاثة أمور، هي: العبادة، والتربية، والدعوة.
مثال: المُدرِّسة تفعل ما يلي في بيتها، وفي مدرستها، وفي دروسها الخاصة.
أ- في بيتها:
1- تنوى نيَّةً صالحةً في تعاملها مع زوجها وأولادها، فهي مسئولة عن تربية أبنائها؛ كي يكونوا عبادًا لله صالحين.
2- أن تعلمهم أمور دينهم، ولا تنسى أنها القدوة في كل سلوك تأتيه معهم أو أمامهم.
3- أن تقتدي بهدي سيد الدعاة والمرسلين- صلى الله عليه وآله وسلم- في أخلاقه، وعباداته، ومعاملاته، وطعامه، ونومه، وملبسه، ونظافته، وترتيبه، وبساطته، وصدقه، والتزامه بمواعيده وعهوده.
4- أن تجالس أهل بيتها وتؤانسهم، وتؤاكلهم، وتشرح لهم دروسهم، وتعلِّمَهم كيف يعرفون الله بالتدبُّر في كل علومهم، وتغرِس فيهم العَطاء والصبر والأمانة وتحمُّل المسئولية، وإتقان العمل، وتنظيم الوقت، وترتيب الأولويات.
إنها إذا فعلت ذلك أحبَّ الأهل دعوةَ الله والتزموا بها، ووضعوا ثقتَهم في مربيتهم، فتستجلب الطاعة منهم لله ثم لها، فإن أول من آمن بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أهلُ بيته، وهو الذي قال: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ" (رواه الترمذي) وقال أيضًا: "وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ" (رواه البخاري).
ب- في مدرستها:
1- أن تبدأ درسها بنية صالحة لنفع المسلمين، وتربية عبادٍ لله نافعين لدينهم وأمتهم.
2- أن تمارس الدعوة من خلال مادتها العلمية، فيجب أن تكون متمكنةً منها، فهى الأفضل دائمًا بين زميلاتها، في معلوماتها وطريقة توصيلها لتلميذاتها.
3- أن تكون في فصلها وبين تلميذاتها عابدةً متدبرةً متفكرةً لكل ما تقول، فتستخرج من خلال مادتها ما يُتعرَّف به على الله تعالى وسُننِه في خلقه.
4- أن تذكُرَ الله كثيرًا وتذكِّر به.
5- أن تتعاهد مواعيد الصلاة وتتهيَّأ لها وتدعو إليها.
6- أن تحافظ على مواعيد حصصها، فلا تتأخَّر عنها.
7- أن تكون أمينةً في أداء مهمتها ووظيفتها، حريصةً على تعليم تلاميذها.
8- أن تصبر على أسئلة تلميذاتها وسلوكهن، وتتعرَّف إليهنَّ، وتتقرب منهنَّ، فتسأل عن الغائبة، وتعود المريضة، وتعين الضعيفة، وتحترم آراءهنَّ وطلباتهنَّ، وتحُلُّ ما تقدر عليه من مشكلاتهن، وتساعد المحتاجة، وتعتبرهنَّ دائرةً مهمَّة من دوائر دعوتها، فتصدق الله فيهن، وتدعو الله لهن أن تكون منهن داعيةُ عصرها ومنقذةُ أمتها، فتقرِّب منها النجيبة المستجيبة، وتتعاهد الراغبة والقريبة، تزورها وتتعرف على أهلها وتساعدها وتهتم بشأنها.
9- أن تكون حسنة الخلق مع إدارتها، لينةَ الجانب، متعاونةً، منضبطةً في مواعيدها، تؤدي ما كُلِّفت به برضًى وصبر وإتقان، تعمل الخير وتدعو إليه، وتقترح ما فيه المصلحة، وتنصح بإخلاص.
10- أن تحمل معها دائمًا فكرتها الإسلامية، وتنتهز كل فرصة لنشرها والدفاع عنها، وتحرص على أن تكون واجهةً طيبةً لفكرتها، وقدوةً صالحةً لزميلاتها.
جـ- في دروسها الخاصة:
1- أن تنوي التقرب بها إلى الله تعالى مع ما تحصل عليه من مقابل مادي.
2- أن تتعامل كداعية قبل أن تكون مدرسة، عفيفة عن الطمع، أمينة على أسرار البيت الذي تدخله للدرس.
3- أن تواظب على الحضور في الموعد، لا قبله ولا بعده.
4- أن تكون كتومةً وقورةً، باسمةً مجاملةً، تعامل تلميذاتها بأدب ورفق، وتزداد معرفتها بهن.
5- أن تعرِّف نفسها للتلميذات، وتعَرِّفهن بدعوتها- بما يلائم الحال- وتحببهنَّ في دينهن، وتحرص على أن تؤدي معهن الصلاة، وتحلم عليهن فلا تغضب ولا تصخب، وتنصحهن في باقي موادهن، وتشجعهنَّ على التفوُّقِ فيها.
6- أن تصادق والدة الطالبة وأخواتها، فتدخلهن في دائرة دعوتها، وتظل على علاقة بهن- ولو لم تدرِّس لأفراد الأسرة- بحكم رابطة الدعوة.
وخلاصة القول:
يجب على المسلمة الداعية أن تسقط على كل أعمالها، وفي كل أوقاتها وأحوالها، ما يلزمها عابدة لله، وأن تربي نفسها على الأخلاق والصفات الواجبة لأداء كل أعمالها، ثم تجعل كل ذلك دعوة لله تعالى.
الإجراءات
1- تدوِّن في (كراسة) المحاسبة جميع الأعمال اليومية- كالمثال السابق للمُدرِّسة- ثم تجمع هذه الكراسات الخاصة بكل وظيفة من مجموعة الأفراد.
2- يتم التنسيق بين المِهَن المختلفة بعد إسقاط الأمور الثلاثة على كل عمل وموقف: العبادة، والتربية، والدعوة.
3- تُعتمد لكل وظيفة ومهنة كراسةٌ نموذجيةٌ.
4- تُتابع كل واحدة في أداء واجبات كراستها: إيمانيًّا، وتربويًّا، ودعويًّا.
5- يتم وضع دوائر عددية للدعوة حسب ما يتناسب مع كل واحدة، وبموجب مراحل زمنية.
لعل هذا الأسلوب يزيل الفجوة التي تقع فيها الداعية، وهي ممارسة الدعوة كموظفة فيها، وليست صاحبتها، معتذرةً بالانشغال، وضيقِ الوقت.